(حضارم اليوم) متابعات
في منتصف نوفمبر عام 2009، كان مقر مكتب الإرشاد بحي منيل الروضة وسط القاهرة يضج بحركة غير تقليدية، اتصل بي الحاج مسعود السبحي سكرتير المرشد، بناء على تكليف من المرشد العام السابق الراحل محمد مهدي عاكف، كُنت وقتها رئيسا لتحرير موقع الإخوان الرسمي، وأحد محرري رسائل وبيانات وتصريحات المرشد ومكتب الإرشاد، كان الحدث هو تصاعد المناوشات الحوثية على الحدود اليمنية السعودية التي بدأت تشن هجمات لتقويض التهديد الحوثي.
كان المطلوب صياغة تصريح خاص على لسان المرشد. اندهشت من المطلوب العاجل الذي استدعيت له رغم أن الحدث كان قائما ولا يوجد فيه جديد، لكن المرشد الراحل أكد أن الجديد هو أن إخوان سوريا أصدروا بيانا هاجموا فيه التمرد الحوثي باعتباره منفذا لإرادة السوء وطالبوا اليمن والسعودية بمواجهة الجماعة الباغية.
وكل هذا لأن الحوثيين هم جزء من مشروع يتحرك على الساحة العربية والإسلامية من العراق إلى الشام إلى لبنان إلى اليمن، غايتهم دقّ المسامير الديمغرافية في بنية المجتمعات العربية والإسلامية بغية تمزيقها، وإثارة القلاقل في ربوعها، والتحكّم بإنسانها وبقرارها، واعتبر إخوان سوريا تحرك الحوثي يهدف إلى بناء كيان مزروع، ليؤدّي دورا استراتيجيا، في زيادة حجم الفرقة والانقسام، في قلب بلاد العرب والمسلمين.
حين راجعت بيان إخوان سوريا، لم أجد فيه غير الخطاب الذي كان يُرَوَّج تنظيميا في كل الوحدات القاعدية للتنظيم في الداخل والخارج، لكن مكتب الإرشاد وقتها بعث تنسيقات خارجية كان القيادي يوسف ندا محورا فيها، وانتهت المشاورات إلى ضرورة أن يُصدر المرشد العام باسمه تصريحا مقتضبا ومركزا يحوي نداء موجها إلى ملك السعودية الراحل عبدالله بن عبدالعزيز يدعوه إلى وقف القتال لمنع إراقة دماء المسلمين وحقن دماء المدنيين الأبرياء.
تنظيم متعدد الأوجه
بعد كتابة التصريح ونشره على الموقع الرسمي للتنظيم وتوزيعه على الصحافيين ووكالات الأنباء، رُحتْ أفتش عن موقف إخوان اليمن وحزب الإصلاح لأكتشف أنهم قد قرروا التعاطي مع الموقف من الحوثي عموما عبر محاولة الوقوف على الحياد تجاه الصراع الدائر بين الدولة وجماعة الحوثي.
كان الموقف التنظيمي متعدد الأوجه دافعا لأن أسعى لزيارة اليمن الذي تعدد ذكره في المحافل التنظيمية منذ عرفت الإخوان نهاية ثمانينات القرن الماضي، والذي مر على محطته الكثير من القيادات والأفراد الإخوانية من كل البيئات والمستويات.
في ليلة “صنعانية” السهر قبل تسع سنوات، كنت في جمع من جموع الإخوان اليمنيين، وكان المقر تابعا لحزب الإصلاح – تنظيم الإخوان باليمن- والحضور من الدوائر الإعلامية والسياسية للتنظيم، وكعادة التنظيم فإن الخطاب الموجه للقواعد عادة ما يتسم بالعموميات وينتهي بمأدبة طعام وإنشاد تنظيمي.
وكانت جموع الحضور من عموم إخوان اليمن، يتسمون كما عامة أبناء وطنهم بطيبة الروح وتأجج العاطفة الدينية وهشاشة الوعي، جموع سقطت في شرك تنظيم لا يرقب في إنسان إلاّ ولا ذمة.
بعد الإنشاد حملني برنامج الرحلة للقاء شديد الخصوصية مع الدكتور فتحي العزب الذي كان مرشح التنظيم لرئاسة اليمن 2006، وانتهى اللقاء إلى التأكيد على أن إخوان اليمن يتحركون في كل مكونات النسيج اليمني بغير استثناء، بداية من رأس الدولة وكافة مؤسساتها وانتهاء بكل تنظيمات ومراكز الثقل داخل المجتمع اليمني بمن فيهم الحوثيون، وللإخوان سلاحهم الموجود طبيعيا في البيئة، ومع هكذا حضور يصبح من الصعب تجاوزهم حال تحقق أي سيناريو متوقع لمآلات الوضع نهاية 2010 والتي كانت المؤشرات التنظيمية تُشير إلى أنها تسير نحو انهيار النظام.
في آخر محطات الليلة انتهينا إلى زيارة منزلية إلى المراقب العام للتنظيم باليمن، كان بيتا ذا طابع شديد الخصوصية، يحرص رب الدار على متابعة الإجراءات الأمنية للزوار بنفسه، ويتأكد من أن الهاتف النقال مغلق وفي غير مكان اللقاء.
حين خرجنا من المنزل، لم أندهش كثيرا عندما عرفت أن المراقب العام للتنظيم اليمني هو العقيد محمد عبدالله اليدومي، وكان حتى منتصف ثمانينات القرن الماضي ضابطا في جهاز الاستخبارات اليمنية، وكل ما يعني الرجل أن أحمل لمكتب الإرشاد طمأنة حول أوضاع إخوان اليمن على كافة المستويات، لأنهم أعدوا لكل سيناريو مستقبلي عدته ولهم مع كل الأطراف علاقات وثيقة.
عند نهاية الليلة بدأت الصورة تتشكل من هرم تنظيمي يدير جموعا ممن اجتمع على تخديرهم خطاب إسلامي تنظيمي و(قاتٌ) يدعي التنظيم أنه لا يستطيع محاربته، هكذا أخبرني كل من التقيتهم من قيادات الإصلاح، إنه الواقع الذي صنعه التنظيم الإخواني باليمن على مدار عقود حتى استحال ساحة تنظيمية مفتوحة تتفاعل فيها معادلات التنظيم في مستويات متعددة.
لليمن تنظيمه القطري بأطره التي تبدأ من المراقب العام وتنتهي للشعب، كما أن لليمن تنظيمه الحاضر بقوة في مشهد “رابطة إخوان مصر بالخارج”، والذي ينسق تكاملا مع فعاليات وأنشطة التنظيم اليمني المحلي، بينما يظل للتنظيم الدولي عبر قسم الاتصال حضوره المتميز على الأراضي اليمنية استثمارا لاقتصاد التنظيم وتنمية للقواعد الدولية عبر المؤسسات التعليمية الرسمية التي تتبع إخوان اليمن.
هذا الواقع التنظيمي الذي يتجاوز في مكونه العناصر المحلية أهل التنظيم في اليمن ليكون المورد البشري لتنظيمات السلفية الجهادية التي تطورت لتصبح بمسميات منها (القاعدة وداعش)، هذا التوريد سهله وحدة الخطاب الجهادي لدى العناصر من جهة وأكسبه بعده الدولي حضور العناصر التنظيمية متعددة الجنسيات على الأراضي اليمنية.
انقضت الليلة وما تلاها من ليال طوال دخلت فيها أوطان عربية تباعا رافعة راية الربيع العربي، ولحق اليمن بركب الثورات، وكما كان الواقع المجتمعي في كل الدول التي طالتها فعاليات الغضب، تعرت كل مكونات الواقع المجتمعي اليمني، وتهاوت أوراق التوت الشكلية التي كانت تستر عورات الكيانات السياسية، سواء الرسمي منها أو المعارض، وأصبح اليمن الجديد في مواجهة أماني سدنة معبد دين تنظيمي ذي وجهين. أحدهما سني يحمل اسما أمميا هو (الإخوان) ومحليا هو (الإصلاح)، والآخر شيعي ويحمل أيضا اسما أمميا هو (إيران) وآخر محليا هو (الحوثيين).
ويشترك كلاهما في هدف واحد، يمكن اختصاره في عنوانه الصريح “تدمير منطقة الخليج”، التي يمثل المحطة قبل الأخيرة في قطار تمكين الدين التنظيمي، حيث إن للتنظيم الإخواني حضورا متعدد الأوجه والمستويات في البيئة اليمنية، فهو بالتأكيد قادر على أن يكون الحاضر في مشهد القتال ضد الحوثيين والتفاوض معهم.
وكان ذلك حال الحضور في مشهد المطالب الثورية والنخبوية السياسية عبر حلفاء الأمس، فيما يتهمهم بالعمالة للسعودية أو الإمارات في نفس الوقت، كما أنه يمكن أن يكون حاضرا في مشهد الحكومة الشرعية والرئيس عبدربه منصور هادي بما يؤهله للحضور في مشهد التنسيق مع دول التحالف وعلى رأسها المملكة العربية السعودية والإمارات. لكن هذا الحضور لا يمنعه من استخدامه لإجهاض التحالف أو تسريب تفاصيل مداولاته الإقليمية والأممية إلى دول التحالف التنظيمي، وعلى رأسها قطر وتركيا وإيران.
همزة وصل
في 22 نوفمبر 2015 عقدت لجنة التحليل السياسي التابعة للتنظيم الإخواني حلقة نقاشية بالعاصمة القطرية الدوحة، كان الهدف هو إعداد تقدير موقف يتم رفعه للجهاز السياسي بالتنظيم الدولي حول تطورات الموقف اليمني وموقف الإخوان المسلمين تجاه الحدث.
انتهت النقاشات الخاصة بسياسات الإخوان إزاء خطر تمدد الحوثيين والخيارات المتاحة أمامهم على الصعيدين الأمني والسياسي والسيناريوهات المتوقعة خلال المستقبل القريب والبعيد إلى وضع خمسة مسارات. الأول الدخول في مواجهة مسلحة مع الحوثيين خاصة بعد زيادة وتيرة الانتهاكات ضد الإخوان. والثاني دعم مظاهرات المعارضة ضد الحوثيين. والثالث القبول بالحوثي. والرابع انتظار إخفاق الحوثي. أما الخامس والأخير فيتمثل في الرهان على الأطراف الإقليمية.
سعيا لتجنب سلبيات أي من المسارات الخمسة على التنظيم في اليمن فقد أوصى تقدير الموقف إخوان اليمن بالسعي في خطوط متوازية تستهدف التوصل إلى اتفاق مع الحوثيين ينبذ العمل المسلح ووقف التجاوزات، والتنسيق والتعاون مع التيارات اليمنية تكتل اللقاء المشترك الذي يضم عددا من الأحزاب اليسارية والقومية والدينية في مواجهة الأزمة، والتنسيق والتعاون السياسي مع الحراك الجنوبي ضد الحوثي والرئيس الراحل علي عبدالله صالح، وبذل محاولات للتنسيق مع الأطراف الإقليمية وإثبات الدور الذي يمكن للإخوان القيام به في التصدي للتهديد الشيعي.
مرت أربع سنوات على هذه التوصيات، وبات الواقع في اليمن مقسما بين تنظيم شيعي ممكّن في الشمال، وتنظيم سني ممكن في الوسط وحاضر بقوته في مشهد حكومة الشرعية والرئيس في الجنوب، وتنظيم أممي إخواني سني ترتفع حدود تنسيقه مع القيادة الأممية للتنظيم الشيعي عبر الإدارة الإيرانية.
ويرى كل منهما في وحدة التحالف العربي خطرا على تمكينهما في اليمن، وكلاهما لا يسعى إلى تمكين يحسم القيادة طالما بقي تهديد حضوره في المشهد اليمني دافعا لاستنفار دول الجوار بما يضمن حالة استنزاف مستمر للطاقات والمقدرات والجهود في هذه الدول وبما يوقف تطورها وبالتالي يؤخر مسيرتها.
لعل قراءة المشهد اليمني باعتباره شأنا داخليا، تُقزم من حجم التهديد الذي يمثله المشروع الإخواني- الإيراني، الذي يبدو لمن يقرأ مكونات الواقع منفردة مشروعا متنافرا، في حين أن نماذج استخدامه في العراق وسوريا تشير إلى توحده كأداة تأجيج للفتن داخل القطر الواحد، سعيا لتفتيته وتوسيع دوائر تأثير هذا التفتيت ليشمل تقويض أركان دول المنطقة.
لذا لا يجب أن يُفاجئنا موقف إخوان اليمن الرافض لدعوات حوار فرقاء اليمن في جدة، والذي ترعاه المملكة العربية السعودية ويباركه المبعوث الأممي، إن هذا الرفض المتزامن مع الانسحاب من المواقع وتركها للحوثيين، والفتوى التنظيمية الممهورة بتوقيع “هيئة علماء اليمن” يعيدان للأذهان ما كان من تأصيل شرعي لتكفير جنوب اليمن لتعبئة القواعد جهادا ضد أهل الجنوب (المتمردين).
وهو الخطاب نفسه الذي تزامن مع معارك التنظيم ضد أهل الجنوب اليمني في تسعينات القرن الماضي. وفي الأجواء الشاحنة خرج وزير الداخلية التنظيمي أحمد الميسيري رافضا أي حوار مع المجلس الانتقالي، تحت أي ظرف كان، ومتجاوزا دور دولة الرعاية والتحالف المملكة العربية السعودية، ومطالبا بأن يكون الحوار فقط مع الإمارات إن أرادت.
يبدو المشهد أكثر اتساقا مع واقع ما رصدته في زيارتي السابقة لليمن. تنظيم يسعى للحضور في كل مكونات الواقع اليمني، رافعا راية نصرة الإسلام والمسلمين. عندما حانت اللحظة أصبح عليه أن يؤجل وعوده إلى حين تحقيق تمكينه، وهو ما لا يمكن أن يتم عبر الحوار مع الرباعية الدولية أو غيرها، لأن قراراته دوما محكومة بحسابات التنظيم الأممي وعداواته كما تحالفاته من الممكن أن تتغير من يوم إلى آخر بحسب حجم ما تخصم هذه العداوات من ثبات الأوطان.
هكذا بدأ حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان في مصر علاقته بالدولة اليمنية إبان الحكم الإمامي في ثلاثينات القرن الماضي، قبل أن يصنع (انقلاب 1948) وبحسب توصيف المؤرخ التنظيمي محمود عبدالحليم فإن فكرة إعداد الشعب اليمني للثورة قد نبتت في المركز العام للإخوان، كان هذا يتم بينما مكاتبات (البنا) للإمام اليمني تقطر حبا وتقديرا ونصحا.
يحيل تتبع الموقف التنظيمي الإخواني من اليمن إلى محطات عداءات تتسع دوائرها لتفتح كل حين جبهة على عدو جديد. كانت البداية بنظام علي عبدالله صالح الذي كان حليفا يوما ما، ثم شملت الحوثي الذي كان حليفا يوما ما. لكن هذه العداوة لم تمنع أن يفتح الدكتور فتحي العزب قنوات اتصال وتنسيق مع الحوثي تنامت بعد الإفراج عنه من قبل الأخير منتصف عام 2015 بعد ثلاثة أشهر قضاها محتجزا لدى ميليشيات الحوثي.
كان آخر ما تسرب عن لقاءات التنسيق بين الإخوان والحوثي اجتماعا كان ضيفه المفاوض الحوثي محمد البخيتي على رأس فريق بمنزل عزب في العاصمة صنعاء مارس الماضي. وبالتأكيد هكذا تنسيق لا يمكن أن يتم بغير اتساق مع توجهات التنظيم الدولي الذي بات يجد في إيران أحد الملاذات الآمنة التي يمكن من خلالها استهداف الحضور في اليمن والخليج كله.
اليوم بينما يقف إنسان اليمن يفتش عن بارقة أمل تخرجه من مستنقع دماء صنعته تنظيمات الدين السياسي، تتضافر جهود تنظيماته الأممية لتلقي بشظايا فتنها على جوار اليمن، ويكون على كل متنبه للمصير الإنساني في هذه البقعة من العالم أن يستوعب أن الانسحاب خلف حسابات التفاوض السياسي لا يمثل إلا هدرا للوقت، ومنحا للتنظيمات المتطرفة ما تعوزه لتوسيع موجات الخلخلة عبر نقاط ملتهبة مراكزها موزعة بأنحاء يمن تشظى وطنا، وتشتت إنسانا، يحتضن أطلال وطنه الذي كان سعيدا.