المكلا ( حضارم اليوم ) احمد جمال :
تعتبر المناورات العسكرية جزءا مهما ينسجم مع روح استراتيجية الجيش المصري، ويجري التعامل معها باعتبارها تأتي ضمن خطط التطوير التي تشمل قطاعات دفاعية مختلفة، غير أنها تأخذ حاليا أبعادا مختلفة، بعد أن تنوعت وتمددت إلى مناطق جديدة لم تكن ضمن دوائر التدريب التقليدية، لكن خبراء يضعونها في إطار مساعي القاهرة لمواجهة التهديدات المحتملة عبر التأكيد على أن لديها ذراعا طويلة قادرة على أن تشكل تهديدا للقوى المعادية في مناطق نفوذها، وبالتعاون مع قوى فاعلة تمثل ترجيحاً للكفة العسكرية المصرية، حال دخولها في حروب مباشرة.
القاهرة- يشارك الجيش المصري في أربع مناورات عسكرية في توقيت واحد مع قوى إقليمية ودولية مختلفة، وفي اتجاهات متعددة، بحثا عن تحقيق هدف رئيسي يتمثل في إعادة رسم أبعاد المجال الحيوي، والابتعاد عن المنظور التقليدي لدوائر الأمن القومي المتاخمة بشكل مباشر للحدود وصولا إلى الدخول في مرحلة ذات طابع جيوسياسي متقدم للدفاع عن مصالح الدولة.
وبدأت تدريبات “سيف العرب” المشتركة بين القوات المسلحة المصرية والقوات الإماراتية والبحرينية والأردنية، الثلاثاء الماضي، في قاعدة محمد نجيب العسكرية غرب البلاد، وتنطلق لتشمل الاتجاهات الاستراتيجية الشمالية. وقد نفذت القوات البحرية المصرية تدريبا عابرا بنطاق الأسطول الشمالي في المتوسط مع القوات البحرية الفرنسية، هو الثاني خلال هذا الشهر.
كما خرجت تشكيلات من السفن والفرقاطات المصرية إلى أقصى الشمال مرورا بمضيقي الدردنيل والبوسفور الدوليين الخاضعين لسيطرة تركيا، إلى البحر الأسود للمشاركة في مناورات “جسر الصداقة 2020″، مع القوات البحرية الروسية، كما تشارك وحدات من القوات الجوية وعناصر من قوات الصاعقة المصرية في تدريبات “نسور النيل 1” مع الجيش السوداني في قاعدة مروي الجوية السودانية.نهى بكر: ثمة إدراك مصري للمخاطر الأمنية العابرة للحدود
ورغم توالي التدريبات العسكرية مع قوى متعددة، إلا أن الجيش المصري لم يدخل حربا مباشرة على أي من الاتجاهات المهددة، ويجري توظيف تصاعد وتيرتها وقوة الأسلحة والتشكيلات المشاركة فيها كأداة تبرهن على الاستعداد لأية مفاجآت تهدد الأمن القومي، ما يجعلها أداة ردع، وأن هناك قدرات فاعلة يمكن استخدامها.
ويعبر إقدام الجيش المصري على الانخراط في مناورات بأسلحة مختلفة وفي مناطق متباعدة على أن هناك إدراكا لخطورة التهديدات التي تأتي من دوائر غير متصلة مباشرة بالحدود، خاصة من ناحية تركيا التي تهدد المصالح المصرية في ليبيا وإقليم شرق المتوسط، بالتزامن مع تحركات تركية وقطرية مشبوهة في القرن الأفريقي، إضافة إلى ما يجري في إثيوبيا من تطورات تؤثر على مستقبل صراع المياه بين دول حوض النيل.
استكشاف استراتيجي
يرى الخبير العسكري، اللواء طلعت مسلم، أن مصر تستكشف المناطق الجيوسياسية التي تأتي منها التهديدات المباشرة، ولم تتعامل معها منذ سنوات بفعل تركيزها على الجبهة الشرقية مع إسرائيل وقطاع غزة، وتضع القوات المسلحة احتمالات متعددة للتعامل مع أي صراعات مستقبلية، في ظل اضطراب الأجواء الإقليمية، وعدم وضوح الرؤية بشأن مستقبل التعامل الدولي مع القضايا الحيوية.
وقال لـ”العرب” إن “الاحتكاك مع قوات متعددة في اتجاهات من المحتمل أن تشهد تصعيدا يصب في صالح تعميق خبرات الجيش المصري، والتدريب على استخدام الأسلحة الحديثة، وتنسيق الجهود العسكرية مع الحلفاء في مناطق متباينة، بما يتماشى مع شكل الصراعات المتوقع أن تكون بين تحالفات سياسية وعسكرية، وليس قوتين في مواجهة بعضهما البعض على الأرض”.
ولعل ذلك يظهر عبر التدريبات المصرية المتعددة مع قبرص واليونان وفرنسا، وهي الدول التي لديها تقاربات سياسية في وجه التحرشات التركية في شرق المتوسط، وينطوي الأمر أيضا على التدريبات مع دول محور الاعتدال العربي، مثل السعودية والإمارات والأردن والبحرين، للتعامل مع التهديدات الإيرانية في البحر الأحمر، وتأمين مضيق باب المندب وضمان استقرار حركة الملاحة بقناة السويس.طلعت مسلم: مصر تستكشف المناطق الجيوسياسية التي تأتي منها هديدات
ويدعم اتجاه الجيش المصري جنوبا، نحو السودان، إمكانية تشكيل تحالف ثنائي في مواجهة صراعات المياه التي قد تصبح أمراً واقعا، حال استمر التعنت الإثيوبي بشأن ملء وتشغيل سد النهضة دون الوصول إلى اتفاق قانوني ملزم يضمن عدم الإضرار بدول المصب، وهذا التحالف قد يمتد ليشكل حائط صد أمني لخطر الإرهاب القادم من القرن الأفريقي، ويمثل تهديداً مشتركاً على الدولتين.
وأوضح الخبير الاستراتيجي اللواء عبدالرافع درويش، أن مصر تسعى لإعادة رسم مجالها الحيوي جنوبا، وتكثيف التعاون مع دول مثل أوغندا وجنوب السودان وتنزانيا وإريتريا، وقد يمتد ليشمل فضاء عسكريا مشتركا في مواجهة أية تهديدات، بفعل كثافة القواعد العسكرية التابعة لدول معادية لمصر، على رأسها تركيا.
وأشار درويش لـ”العرب” إلى أن القاهرة تحاول تفادي الأخطاء التي تسببت في وصول تركيا إلى أن تهددها مباشرة عبر حدودها الغربية مع ليبيا، وتلوح باستخدام الحل العسكري عبر التأكيد على إمكانية مواجهة الأخطار جنوباً دون أن تغير استراتيجيها، ما يعني أنها سترتكن إلى المناورات وتكثف التنسيق والتعاون العسكري والاستخباراتي مع دول الجنوب من غير الحصول على قواعد عسكرية.
وتفعّل القاهرة عملية تأمين مجالها الحيوي من ناحية البحر الأحمر مع دول الخليج، مع تردي الأوضاع الأمنية في اليمن، وتوالي تهديدات المتمردين الحوثيين على نطاق الساحل الغربي للبلاد، ويتوقع أن تكون هناك درجة من درجات التكامل العسكري مع دول الخليج، بما يضمن حماية عمق الأمن العربي.
ولا يمكن الفصل ما بين المناورات المصرية العربية المتتالية في ساحل البحر الأحمر وبين إعادة ترتيب الأوضاع في تلك المنطقة، والتي تشهد تعاونا جديداً بين الدول العربية وإسرائيل في مواجهة إيران، التي قد توظف أذرعها الإرهابية لتهديد حركة الملاحة البحرية في مضيق باب المندب.
ويأخذ الاهتمام المصري بتأمين البحر الأحمر أبعادا اقتصادية أيضا، مع ترسيم الحدود البحرية مع السعودية، في ظل رغبة القاهرة في اكتشاف آبار الغاز والبترول في نطاق حدودها الإقليمية، ولعل ذلك ما كان دافعاً لتدشين قاعدة بحرية تشكل ركيزة للأسطول البحري الجنوبي، الذي استقر على مساحات من امتداد ساحل البحر الأحمر.
ردع التهديدات
مصر تسعى لإعادة رسم مجالها الحيوي جنوبا وتكثيف التعاون مع دول مثل أوغندا وجنوب السودان وتنزانيا وإريتريا
أجرى الجيش المصري مؤخرا مناورات بحرية مع القوات البريطانية شملت تنفيذ تدريبات لحماية السفن التي تحمل شحنات هامة وتأمينها، مع التدريب على عمليات الاعتراض البحري، طبقًا للمواثيق والقوانين الدولية، وتأمين الوحدات البحرية عبر قوات الدفاع الجوي.
ويذهب عسكريون إلى التأكيد على أن مصر ستكون لها بعض الأدوار الفاعلة في التعامل مع التهديدات الإيرانية، وما يبرهن على ذلك وجود القوات البريطانية على نطاق واسع في البحرين الأحمر والمتوسط، لتنفيذ التدريبات التي اختتمت هذا الأسبوع، في وقت تمارس فيه بريطانيا ضغوطا على الميليشيات الحوثية المدعومة من طهران لوقف أنشطتها الإجرامية في البحر الأحمر.
وقالت عضو الهيئة الاستشارية للمركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية نهى بكر لـ”العرب” إن “ثمة إدراكا للمخاطر الأمنية المتعددة والعابرة للحدود، لا تتوقف فقط عند أطراف المناطق المتاخمة لها، ما يجعلها أكثر نشاطاً لإيجاد نوع من التناغم العسكري بينها وبين الدول الحليفة، لأن هناك تنوعاً في شكل الأخطار، بين القرصنة والإرهاب والاتجار بالبشر والجريمة المنظمة، إضافة إلى الأخطار العسكرية التقليدية”.
وأكدت أن ثمة إدراكا مقابلا للأطراف الإقليمية الأخرى لقوة مصر العسكرية حاليا والتي تجعلها مؤهلة للعب دور أكبر مستقبلاً بما يدعم الخروج المحسوب من دائرة الكمون الاستراتيجي، والتركيز على الاتجاهات التي تضمن لها تفوقاً عسكرياً وأمنياً، والتوجه نحو الجنوب عبر تنويع العلاقات مع دول أفريقيا في مجالات تضمن حرية كبيرة للحركة والتعامل مع السيولة الأمنية الراهنة.
ويبقى الهدف المصري الخروج البطيء من دائرة الكمون من ضمانات تحجيم التهديدات التي تطال الدولة المصرية، وليس بحثاً عن نفوذ سياسي وعسكري في مناطق جديدة، وبالتالي فالمناورات تعبر عن هذا الهدف الذي يعد وسيلة دفاعية وليست هجومية، بما يسمح بتكرار نجاح القاهرة في إيجاد فاعلية إقليمية.
يدعم اتجاه الجيش المصري جنوبا، نحو السودان، إمكانية تشكيل تحالف ثنائي في مواجهة صراعات المياه التي قد تصبح أمراً واقعا
وأوضح الباحث في مجال العلاقات الدولية بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، عماد جاد، أن مصر تعمل على توسيع مجالها الحيوي بما يجعلها قوة رئيسية في المنطقة، وذهابها إلى أقصى الشمال ووصولها جنوبا في توقيت واحد يؤكد أن حدود أمنها القومي لم تعد على أطرافها فحسب، والنشاط الدبلوماسي الذي مارسته على مدار سنوات تسعى لتحويله إلى تعاون فاعل يضيق الخناق على الأخطار التي تستهدف مصالحها، أو تشكل تهديداً على الدول المتحالفة معها.
وقال لـ”العرب” إن “هناك حاجة ماسة لإعادة رسم الخارطة الجيوسياسية للمنطقة مع وجود جملة من الملفات المفتوحة، التي سيحتاج إغلاقها إلى وجود قوة عسكرية عربية تتعامل مع النتائج المترتبة على الحروب الأهلية التي اشتعلت في بلدان عربية مختلفة، وأن القاهرة تجد نفسها مضطرة لتوسيع قاعدة تحركها خارجياً للحفاظ على استقرار أوضاعها الداخلية التي ستكون مهددة أيضاً.
ولم يستطع جاد التنبؤ بمستقبل التحركات العسكرية المصرية وربط الأمر بمدى الانتهاكات التي قد يتعرض لها الأمن القومي المباشر، لكنه ذهب باتجاه إمكانية التحرك غرباً، حال لم تلتزم تركيا بالخط الأحمر (سرت – الجفرة)، وفي حال تطور التنسيق العسكري التركي – القطري في ليبيا ووصوله إلى تدشين قواعد عسكرية هناك.