مرّ الأسبوع الأول من رحلة وزارة التربية والتعليم للخارج، وأنا أقاوم البعد عن أهلي، فبعمر الاثني عشر يصعب على الطفل التأقلم مع مكان جديد دون وجود أهله. وحتى في الابتعاد والبعد أبت أمي إلا أن تترك لي درساً لم أنسه. طلبت مني فتح زرار حقيبتي السفلي، لأجد صورة لي وأنا صغير بصحبة عائلتي. تحسست الصورة وكأني ألمس أفراد عائلتي، وأحتضنهم. خلف الصورة، تركت لي أمي رسالة، كتبتها بخط اليد.
أذكر يومها شعرت وكأني جلست معهم، وقضيت بصحبتهم أجمل اللحظات. علمتني أمي من هذا الموقف أن البعد فيزيائي، والابتعاد روحي ونفسي، فكم من بعيد قريب بتواصله ووصله، وكم من قريب بعيد بهجرانه وصدّه.
في البعد فرصة، لتكون أقرب لله ثم لذاتك ولأحبتك. اجعل لبعدك بُعداً تتعمق به ببوادر جديدة، تصل بها من تحب، اتصل بمن تشتاق إليه، أرسل رسالة لصديق لم تستطع حضور حفل زفافه، وهنّئه بطريقتك الخاصة. كن حاضراً في الغياب ولو بكلمة طيبة.
أثناء دراستي الجامعيّة في الخارج، فاتتني العديد من المناسبات، التي وددت أن أكون جزءاً منها، لكني استخدمت خلطة أمّي السحرية. سألتني العجوز، التي أسكن عندها عن سبب لبسي الزيّ الرسمي «الكندورة». أجبتها أني سأحضر حفل زفاف خالتي «عن بعد»، جلبت لي عصيراً وكعكة قائلة: «هكذا نحتفل بالأعراس».
مع تحدي «كورونا» اختر البعد لا الابتعاد. أجبرتنا الظروف بالتوقف المؤقت عن الوصل، لكن جُدْ بتواصلك. أكرم من تحب بمكالمة فيديو، برسالة صوتيّة أو كتابيّة، لا تهم الطريقة المهم أن تتواصل.
إن أرغمتك الظروف على الابتعاد والبعد، اختر البُعد لا الابتعاد. في الابتعاد غياب ولو كنت حاضراً، وللبعد مسافة يملؤها حضورك. تذكّر أن بُعد النظر عمق، وابتعاده غفلة.