كتب/ هاني مسهور
السؤال الثقيل المطروح مع عودة الرئيس دونالد ترامب إلى البيت الأبيض هو ما إذا كان التحالف العربي مستعدًا لخوض الحرب في اليمن؟ دواعي هذا السؤال تفرضها واقعية الحال؛ فالهدنة التي أعلنتها السعودية في 2 أبريل 2022 كانت ضرورية لاحتواء ضغوط إدارة الرئيس الديمقراطي جو بايدن. هذه الهدنة تأتي ضمن حزمة سياسات اعتمدتها الرياض في إعادة تموضعها في عدد من الملفات السياسية، مثل الملفيْن الإيراني والصيني وحتى علاقتها مع روسيا وارتباطها بأوبك+. وبعد عودة ترامب، فإن تقديرات هذه السياسات من المؤكد أنها ستكون مختلفة، ولذلك يطرح هذا السؤال الثقيل باعتبار أن أزمة اليمن لم تعد مجرد أزمة إعادة الشرعية إلى صنعاء وإنهاء انقلاب الحوثي في 2014. التعقيدات المستجدة تتجلى في انخراط جماعة الحوثيين ضمن ما يسمى بـ“محور المقاومة” بعد هجوم حماس في 7 أكتوبر 2023 على إسرائيل، وتحويل جنوب البحر الأحمر وباب المندب إلى منطقة عسكرية مشتعلة أضرت بحركة الملاحة التجارية الدولية، ما فرض واقعًا مغايرًا لما كان قبل ذلك.
من هنا، يبدو أن على المنطقة إعادة تقييم موقفها السياسي والعسكري. فالسعودية التي رأت في تبني الهدنة فرصة لإعادة تموضعها وتعريف موقفها من الأزمة اليمنية، بالانتقال من طرف في النزاع إلى وسيط، تجد نفسها الآن أمام استحقاق السؤال الثقيل: هل هي مستعدة للعودة إلى موقفها الأصيل في 2015؟ فقد انتزعت الرياض من مجلس الأمن الدولي إبان عهد الرئيس الأميركي باراك أوباما القرار 2216، الذي يشكل الإطار القانوني للعمليات العسكرية تحت الفصل السابع. عمليات “عاصفة الحزم” أنجزت واقعًا مهمًا يجب عدم تبديد مكتسباته. المتغيرات في السياسة الأميركية، وما شكلته من ضغط خاصة بعد إعلان إدارة الرئيس جو بايدن في عام 2021 إنهاء الدعم العسكري الهجومي للسعودية في حرب اليمن، ساهمت في التوصل إلى هدنة أممية بين السعودية والحوثيين.
كل التقديرات التي سبقت فوز الرئيس دونالد ترامب بالرئاسة كانت تعطي تصورًا موضوعيًا، سواء فاز الجمهوريون أو الديمقراطيون. الولايات المتحدة وصلت إلى قناعة كاملة بأن الأزمة في اليمن لم يعد من الممكن تركها على حالها، فالهجمات الحوثية على السفن في البحر الأحمر وإطلاق الصواريخ الباليستية بعيدة المدى التي استهدفت بها إسرائيل جعلا جماعة الحوثي خطرًا يهدد الأمن الدولي. الضربة الإسرائيلية التي استهدفت ميناء الحديدة لم تردع الحوثيين، وإن قلصت هجماتهم على السفن التجارية. حتى استخدام الولايات المتحدة القاذفات الشبحية لضرب مخازن الأسلحة في مواقع الحوثيين لم يكن رادعًا بما يكفي، لأن الإستراتيجية القائمة تعتمد في الأصل على النهج الدفاعي الذي تأسست عليه عملية “حارس الازدهار”، مع إعادة تصنيف الحوثيين على قوائم التنظيمات الإرهابية الأميركية.
حاول المبعوث الأميركي إلى اليمن تيم ليندركينغ أن يستنسخ مسارًا مشابهًا لذلك الذي سار فيه روبرت مالي مع إيران حتى الوصول إلى الاتفاق النووي. اعتمد ليندركينغ على الهدنة وصاغ منها، بالتعاون مع المبعوث الأممي إلى اليمن هانس غروندبرغ، ما أُطلق عليه “خارطة الطريق” التي كاد المجلس الرئاسي يوقع عليها تحت ضغط سعودي – عماني – أميركي، لولا أن الحوثيين اندفعوا في هجماتهم على السفن التجارية، وإلا لكانوا انتزعوا ما كانوا يسعون إليه منذ انقلابهم. هذا المسار السياسي شكل خطرًا مميتًا بما يمنحه لجماعة إرهابية من مسوغات قانونية تشرعن وجودها سياسيًا. إصرار إسرائيل على الانتقام من الهجمات الحوثية، مع تحميل الاقتصاد العالمي كلفة مالية هائلة، يعكس خطورة هذا الوضع.
وبعد فوز ترامب وعودته إلى البيت الأبيض أصبحت التساؤلات حول كيفية تعامل التحالف العربي مع الأزمة اليمنية أكثر إلحاحًا. قد تتطلب المتغيرات الجديدة تبني مواقف أكثر حدة ووضوحًا تجاه الحوثيين وإعادة صياغة الإستراتيجيات العسكرية والدبلوماسية. ومن المتوقع أن تعتمد إدارة ترامب الثانية سياسات أكثر تشددًا تجاه إيران وحلفائها، ما قد يعيد الزخم إلى المواجهة في اليمن، وربما يعيد الدعم العسكري للتحالف العربي من أجل مواجهة التهديدات المتزايدة.
السؤال الذي يطرحه التحالف العربي هو ما مدى الجاهزية لخوض مواجهة عسكرية في ظل واقع مختلف عما كان عليه في عام 2015؟ فالأوضاع الميدانية والسياسية معقدة، حيث تحولت جماعة الحوثي إلى فاعل إقليمي ضمن محور المقاومة، ما يستدعي قراءة جديدة للمشهد بأكمله. والتحديات تتجاوز البُعد العسكري إلى البُعديْن الدبلوماسي والأمني، حيث تتطلب حماية أمن البحر الأحمر ومضيق باب المندب اتخاذ قرارات حاسمة لضمان استقرار الملاحة الدولية.
الموقف السعودي، تحديدًا، يحتاج إلى إعادة تقييم، خاصة أنها اختارت نهج الهدنة لاحتواء الضغوط الدولية وتجنب الدخول في مواجهات مكلفة. ومع ذلك، فإن تحول الحوثيين إلى تهديد يتخطى الحدود الإقليمية يجعل من الضروري العودة إلى نقطة الصفر، حيث تصبح الحاجة إلى تفعيل قرار مجلس الأمن 2216 تحت الفصل السابع ملحة لاستعادة المبادرة العسكرية والسياسية في الساحة اليمنية.
ومن المؤكد أن عودة ترامب ستضع ملف اليمن تحت المجهر الدولي مجددًا، وقد تؤدي إلى إعادة رسم التحالفات وتحديد الأهداف الإستراتيجية بشكل مختلف. قد يكون التحالف العربي مطالبًا هذه المرة باتخاذ إجراءات أكثر جرأة ومرونة لتحجيم الدور الحوثي وإفشال خطط إيران الرامية إلى توسيع نفوذها في المنطقة. وفي ظل التهديدات المتزايدة للأمن الإقليمي والدولي، يبقى السؤال: هل التحالف العربي مستعد لمرحلة جديدة من المواجهة في اليمن؟
التعقيدات الحقيقية تبدو في الخارطة التي تشكلت بعد “اتفاق الرياض 2019”. الجنوبيون يمثلون القوة العسكرية الأكبر، وهم من يُفترض أن يكونوا رأس الحربة والدرع في مواجهة الحوثيين، ما يعني أن على السعودية والولايات المتحدة تقديم الصفقة الكبرى بمنح الجنوبيين استحقاقهم السياسي. راهنت السعودية على جماعة الإخوان (حزب الإصلاح) ولم تتخل عن هذه الورقة رغم كل مواقف الغدر والخذلان السياسية والعسكرية، بل دفعت بهم ليكونوا ضمن ممثلي المجلس الرئاسي. السعوديون الذين كانوا يرفضون أن يكون على حدودهم “حزب الله” آخر خاضوا في عام 2015 تحالفًا عسكريًا وسياسيًا بشجاعة، وشاركتهم الإمارات التي أبقت على التزاماتها ومازالت تحتفظ بمفاتيح القوى الجنوبية وحتى اليمنية الوطنية غير الأيديولوجية. هذا يعيد التقدير الضروري لترتيبات القرارات التي تعالج لحظة ما قبل اتخاذ القرار الصعب بإعادة تنشيط التحالف العربي وإسقاط الهدنة التي لا معنى لها مع الحوثيين.
حساسية الموقف لا يمكن تجاهلها، فستكون للرئيس ترامب توجهات مؤكدة لإنهاء التهديدات الحوثية. وإن حاول إنشاء تحالف دولي على غرار التحالف الذي كان ضد داعش، فإنه سيواجه ملفات صعبة مع روسيا والصين. لذلك، سيكون أمام الولايات المتحدة الاعتماد على التحالف العربي كخيار متاح لخوض الحرب ضد الحوثيين. هذا التقدير الموضوعي قد يكون ثقيلًا في الحسابات السعودية، لكنه يبقى مطروحًا، فقد حاولت الرياض عبر الدبلوماسية معالجة الأزمة، لكن التعنت الحوثي وفساد جماعة الإخوان حالا دون تحقيق هدفها الإستراتيجي في تأمين حدودها الوطنية من المخاطر الإرهابية. ولدى أبوظبي جميع المسارات المؤدية إلى تحقيق ما تريده السعودية وأميركا والعالم في إنهاء الميليشيات الحوثية والإخوانية معًا، لكن تبقى هناك صفقة لا بد من إنجازها، وهو ما سيبقى منتظرًا مع سيد البيت الأبيض.