كتب/ د. عيدروس نصر النقيب
بالتزامن مع الذكرى الواحدة والستين لثورة الرابع عشر من أوكتوبر المجيدة، شهدت العديد من المواقع الإعلامية والصحفية وبعض وسائل الإعلام المعتبرة، حملة تشنيع على ثورة الرابع عشر من أكتوبر وتاريخها ومسيرتها وسيرتها الذاتية ومنجزاتها وتأثيرها على صيرورة التاريخ المعاصر في جنوب اليمن وشماله، وحتى في المنطقة العربية عموماً.
إنني لا أتحدث عما يكتبه الصبية والمتدربون على مواقع التواصل الاجتماعي بحث يعتقد من امتلك هاتفاً ذكياً بأنه أصبح عالماً ومؤرخا ومحللاً سياسياً وصاحب رأي حاسم في تقييم صيرورة الأحداث ومآلاتها، فمثل هؤلاء يملأون الأفق الرقمي كما يملأه الغبار في لحظة العاصفة، لكنني أتحدث عن كتابات ومقالات وتصريحات لبعض المتعلمين وحملة الشهادات العليا وبعضهم شغل مواقع مهمة في منظومة الدولة الجنوبية التي أنتجتها ثورة تحرير وتوحيد واستقلال الجنوب، ثورة الرابع عشر من أكتوبر التي ينبرون للعنها والتشهير بتاريخها وصب اللعنات على ثوارها وشهدائها وقادة منظومة الحكم بعد الاستقلال في الجنوب ، وتصوير تاريخ ثورة 14 أكتوبر على إنه مجموعة من المذابح والجرائم والأخطاء وفي أحسن الأحوال التدمير والتهجير والتسفير ولا شيء آخر.
سيكون من غير الحكمة الادعاء بأن تاريخ ثورة الرابع عشر من أوكتوبر (مثل كل ثورات التحرر الوطني) تاريخاً ملائكياً، وعلى الصعيد العملي وعلى مر التاريخ، لا توجد ثورة شعبية عارمة كثورة 14 أوكتوبر خالية من الأخطاء والعيوب، ومن لديه مثالٌ واحدٌ على ثورة كهذه أرجو أن يدلنا عليه، ومن المؤكد أن أخطاءَ جسيمة وبعضها قاتلة وقع فيها من تولوا حكم الجنوب بعد الثلاثين من نوفمبر 1967م، ولعل أهم ما أقصده هنا هو الذهاب إلى الاتحاد الاندماجي مع الجمهورية العربية اليمنية الشقيقة دونما دراسة وتمعن، وتعرف دقيق على عمق التباينات واختلاف المزايا بين الشعبين والدولتين والنظامين والثقافتين والتاريخين واستكشاف النوايا والمقاصد لدى الطرف الآخر ووضع شروط جزائية تحفظ حق الطرفين المندمجين في عدم الإخلال بمضامين الاتحاد، وهذا موضوع يطول الحديث فيه، لكن هذا التقييم ينبغي أن لا يأتي من خلال مهرجانات النواح ومعلقات اللعن والتشهير والتحقير والسخرية بأرواح ودماء الشهداء ونقاء الثوار ونزاهة القادة الذين تولوا معركة بناء دولة وطنية مساحتها 375 كم مربع على أنقاض 23 دولة ودويلة وإمارة وسلطنة ومشيخة بعضها لم تدخل أراضيها مركبة ولو من تلك التي تجرها الأنعام، ولا عرف أهلها حبة الأسبرين ولا تعلمت أجيالها حتى جدول الضرب، وكان أهلها يقتتلون لعقود من الزمن في خلافٍ على شبرٍ من الأرض أو مقتل حيوان، ساقية عرضها بعض أذرع من الصخر.
لا أحد يطلب امتداح تاريخ الثورة رغم أن ما حققته من معجزات تستحق الثناء والإشادة والعرفان، لكن بما إننا نتحدث عن طبقة المتعلمين من المنخرطين في مهرجان اللعن والتشهير والتشنيع، فإنه ومن منطلق الأمانة العلمية والتاريخية والإنصاف سيكون من الضروري إجراء وقفة تقييمية عادلة وموضوعية تتناول أين أصابت الثورة، وأين أخطأت، وما هي أسباب الخطأ والإخفاق والفشل وفي هذا السياق سيقتضي الموقف الأدبي والأخلاقي الإقرار أن تاريخ ثورة الرابع عشر من أوكتوبر لم يكن مجرد مجموعة آخطاء، وإن منطق تخطئة كل شيء لا يأتي من فراغ، وإنما ينطلق من عدة اعتبارات، أولها محاولة التبرؤ من تاريخ الثورة، خصوصاً من قبل أولائك الذي كانوا مشاركين رئيسيين في توريط الثورة في تلك الأخطاء، والثاني محاولة ترتيب موقع معين لدى القوى التي يعتقد روادها أن إدارة البلد في المستقبل المرتقب لن يأتي إلا من منطلق تدمير تاريخ الثورة الأكتوبرية وطمس ما تبقى في ذاكرة الأجيال من معالمها ومنجزاتها ونجاحاتها التي وصلت (تقريباً) إلى كل منزل وقرية وحارة وبلدة ومديرية ومحافظة على طول وعرض أراضي الجنوب الممتدة من أرخبيل حنيش وباب المندب حتى أرخبيل سقطرة وحدود صرفيت وحوف وقشن حتى صحراء العبر وثمود وكل ما بين هذه المناطق من مساحات وبشر لم يعرفوا تاريخهم وهويتهم إلا بفضل هذه الثورة وتحت لواء الدولة الوطنية الجنوبية التي أنتجتها.
* * *
لنختتم حديثنا بهذه الطرفة المضحكة:
لي صديق تزاملت معه منذ الطفولة حينما كنا نتعلم القراءة والكتابة في المعلامة (الكُتَّاب)، منتصف الستينات من القرن الماضي، لكن زميلي اختصر الطريق وبدلاً من التعليم المنتظم التحق بالسلك العسكري وفي غضون 4 سنوات صار قائداً عسكرياً مرموقاً، وبعد أربع سنوات أخرى انتقل للعمل في مركز قيادي في وزارة الدفاع، ثم نط إلى موقع أعلى بعد أحداث 1986م وفي سنة 1990م صار من أهم القادة الذين مثلوا الجنوب ودولته بقيادة الحزب الاشتراكي اليمني، في إعداد القوانين والتشريعات الجديدة لدولة الوحدة.
هذا الزميل يبدأ هذه الأيام بلعن الثورة الجنوبية وحركتها التحررية منذ انطلاق الثورة نفسها في أكتوبر 1963م، ويعتبر الثورة على الاستعمار خطأً و”يمننة” الجنوب، كما يحلو لكثيرين تسميتها، جريمةً لا تغتفر ويتحسر على الرئيس المرحوم قحطان الشعبي ويلعن الذين أطاحوا به، ويتحسر على الشهيد سالمين ويلعن الذين انقلبوا عليه، ويتحسر على الشهيد عبد الفتاح اسماعيل ويلعن الذين أجبروه على الاستقالة، ويتحسر على الرئيس علي ناصر ويلعن الذين أخرجوه من الحكم، ويتحسر على جمهورية اليمن الديمقراطية ويلعن الذين أعلنوا الوحدة مع الشمال، . . . وباختصار شديد هذا الزميل وكثيرون من أمثاله يلعنون الشيء ثم يتحسرون عليه، يدينون سياسةً معينة ثم يتباكون على صناعها . . . هذا وهم القادة السياسيون والعسكريون الذين تقفَّز بعضهم عدة قفزات بسرعة الصاروخ في المواقع القيادية وتلقى بعضهم الدورات الدراسية في الاتحاد السوفييتي وغيره من البلدان الاشتراكية، فما بالنا بالذي لم يفتح عينيه وبدايات معرفته بالعالم إلا على إعلام 1994م وهو يصب لعناته على التعليم المجاني والتطبيب المجاني ومؤسسات القطاع العام ودعم المواد الغذائية الرئيسية والحفاظ على العملة الوطنية المحترمة (الدينار) وسياسات العدالة الاجتماعية والرعاية الخاصة للطبقات الاجتماعية الفقيرة؟؟!!
ولله في خلقه شؤون