المكلا (حضارم اليوم) متابعات
تتّجه الدبلوماسية العمانية ذات الخبرة الاستثنائية في مجال الوساطات الصعبة والمعقّدة لوضع بصمتها على الأزمة الحادّة التي فجّرتها هجمات الحوثيين على الملاحة الدولية في البحر الأحمر ومضيق باب المندب وبحر العرب، وبدأت تلقي بظلالها على حركة التجارة العالمية من خلال إعلان عمالقة النقل البحري عن تجنّب هذا الممر الذي أصبح يشكل خطرا على سفنهم وناقلاتهم وينذرهم بخسائر لا يرغبون في تحمّلها.
وكشفت جماعة الحوثي عن رعاية سلطنة عمان لعملية تواصل مع جهات دولية لخفض التصعيد في البحر الأحمر.
ويفتح الجهد العماني الباب لحل المشكلة دبلوماسيا قبل أن تتطوّر إلى صدام عسكري آخر في المنطقة التي لا تحتمل اندلاع المزيد من الحروب إلى جانب الحرب الدائرة في قطاع غزّة وما تنطوي عليه من محاذير التوسّع في الإقليم.
وقال متحدث الحوثيين محمد عبدالسلام في منشور على منصة إكس إنه “برعاية الأشقاء في سلطنة عمان يستمر التواصل والنقاش مع عدد من الأطراف الدولية بشأن عمليات البحر الأحمر والبحر العربي”.
ولم يستبعد مراقبون أن تكون الولايات المتّحدة على رأس الأطراف الدولية التي أشار إليها عبدالسّلام دون أن يسمّيها، بالنظر إلى اهتمام واشنطن الشديد، والمعبّر عنه من قبل كبار المسؤولين الأميركيين، بإيجاد حلّ عاجل لمعضلة تعطيل الملاحة الدولية في البحر الأحمر.
ورغم ما يلوّح به هؤلاء المسؤولون من صرامة إزاء الهجمات الحوثية المتكررة على السفن التجارية، إلاّ أنهم عمليا مارسوا درجة غير معهودة من ضبط النفس عكست عدم رغبتهم في اللجوء سريعا إلى استخدام القوّة العسكرية ضد الحوثيين.
ومن شأن تدخّل العمانيين في الملف أن يوفّر للأميركيين وحلفائهم الإقليميين والدوليين مخرجا مناسبا من المشكلة، خصوصا وأنّ للولايات المتّحدة سوابق في التعويل على سلطنة عمان في حلحلة بعض القضايا المعقّدة، على غرار ما قامت به السلطنة من دور كبير في إطلاق مفاوضات بين طهران وواشنطن بشأن الملف النووي لإيران أفضت إلى التوصّل إلى ما يعرف بالاتفاق النووي الذي تمّ في عهد الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما.
وتعتبر العلاقة المتينة التي احتفظت بها سلطنة عمان مع الحوثيين ومع إيران التي تقف خلفهم، نقطة قوّة إضافية تؤهّل مسقط للعب دور إيجابي في حلحلة قضية الاعتداءات على حركة الملاحة الدولية.
وكانت السلطنة قد لعبت دورا رئيسيا في الوساطة التي أفضت إلى تهدئة الصراع في اليمن وإطلاق مسار تفاوضي بين الحوثيين والمملكة العربية السعودية، ويبدو أنّه أفضى إلى الاتفاق بشأن خارطة طريق تمثّل توطئة لإطلاق عملية سلام شاملة في اليمن.
ويأتي الحفاظ على ما تمّ إحرازه من تقدم في جهود السلام ضمن دواعي الحذر الإقليمي والدولي من استخدام القوّة لردع التهديدات الحوثية لحركة التجارة الدولية عبر البحر الأحمر وباب المندب وبحر العرب.
وكانت الولايات المتّحدة ذاتها من المشاركين عبر مبعوثها الخاص إلى اليمن تيم ليندركينغ، جنبا إلى جنب مع السعودية، في دفع جهود السلام، وتبدي عبر خطابها الدبلوماسي اهتماما بالحفاظ على زخم تلك الجهود وحمايتها من الانتكاس والتراجع.
وبلغت الأزمة في البحر الأحمر وباب المندب وبحر العرب منعطفا خطرا ذا أثر مباشر على حركة التجارة العالمية، وبالنتيجة على مصالح العديد من الدول داخل المنطقة وخارجها، حيث أعلنت شركات شحن عملاقة تعليق مرور سفنها عبر البحر الأحمر.
وقالت شركات ميرسك الدنماركية وهاباغ لويد الألمانية، وسي أم آ سي جي أم الفرنسية، وإم إس سي الإيطالية – السويسرية إن سفنها لن تستخدم البحر الأحمر بشكل مؤقّت.
وزاد الحوثيون في الأسابيع الأخيرة هجماتهم قرب مضيق باب المندب الإستراتيجي الذي يفصل شبه الجزيرة العربية عن أفريقيا. وحذروا من أنهم سيستهدفون السفن المبحرة قبالة سواحل اليمن والتي لها صلات بإسرائيل.
وأسقطت سفن حربية أميركية وفرنسية عدة صواريخ وطائرات مسيّرة أثناء قيامها بدوريات في المنطقة، لكنّها التزمت إلى حدّ الآن بحدود في استخدام القوة ضدّ الحوثيين لا تتجاوز الدفاع عن النفس وصد الهجمات.
كما أعلن وزير الدفاع البريطاني غرانت شابس أن المدمرة البريطانية إتش إم إس دايموند أسقطت “ما يعتقد أنها مسيّرة هجومية كانت تستهدف الملاحة التجارية في البحر الأحمر”.
ووفق القيادة العسكرية الأميركية في الشرق الأوسط “سنتكوم”، فقد تعرضت سفينة إم إس سي ألانيا للتهديد فقط ولم يتم استهدافها بأسلحة، بينما أصيبت إم إس سي بالاتيوم ثلاثة بصاروخ بالستي.
ويعني التخلي عن العبور عبر البحر الأحمر اتّباع مسار بديل يلتف على القارّة الأفريقية ويمر برأس الرجاء الصالح باتّجاه أقصى جنوب أفريقيا.
ولا يؤدّي ذلك فقط إلى إطالة الطريق وخسارة الكثير من الوقت لكنّه سيؤدي حتما إلى ارتفاع تكلفة النقل البحري، وبالنتيجة ارتفاع أسعار المواد التي تنقلها السفن.
وتضع جماعة الحوثي تهديداتها للملاحة الدولية تحت عنوان دعم قطاع غزّة خلال الحرب الإسرائيلية، لكنّ مراقبين يعتبرون أنّ جميع تحرّكات الجماعة مرتبطة بالسياسات الإيرانية التي قد يكون ضمن حساباتها توسيع الحرب الدائرة في القطاع باستخدام أذرعها في العراق ولبنان واليمن لتتّخذ من ذلك ورقة ضغط على خصومها الإقليميين والدوليين.
وقال عبدالسلام “أكدنا للجميع أن عمليات اليمن هي لمساندة الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، وأنه لا يمكن أن نقف مكتوفي الأيدي إزاء ما يتعرّض له القطاع من عدوان وحصار حيث لا غذاء ولا دواء، وحتى المياه الصالحة للشرب أقدم كيان العدو على قطعها”. وتابع قوله “في مختلف اللقاءات جرى التأكيد أن موقف اليمن مع غزة غير خاضع للمساومة، وأن سفن العدو أو تلك المتوجهة إلى موانئه ستبقى عرضة للاستهداف حتى وقف العدوان ورفع الحصار عن غزة، وتدفق المساعدات الإنسانية بشكل مستمر إلى القطاع”.
وشدد المسؤول الحوثي الذي يتولى رئاسة الوفد التفاوضي لصنعاء على أنّ “أيّ خطوات حقيقية تستجيب للوضع الإنساني في فلسطين وغزة بإدخال الغذاء والدواء، من شأنها أن تساهم في خفض التصعيد”.
ويؤشّر هذا التشدّد الحوثي على صعوبة المهمّة التي ستضطلع بها عمان في وساطتها بين الحوثيين والأطراف الدولية بشأن قضية التعرّض للملاحة الدولية، لكنّه لا يلغي إمكانية النجاح فيها بالنظر إلى ما تمتلكه السلطنة من أوراق، وعلى رأسها علاقتها بإيران المؤثرة بقوّة في قرارات جماعة الحوثي، والتي ستكون حتما حاضرة من وراء الستار في أي اتّصالات ومحادثات بين الجماعة والجهات الإقليمية والدولية.