عدن ( حضارم اليوم ) متابعات
يكاد يجزم معظم رجال وخبراء الإقتصاد والسياسة في الداخل والخارج أن ما يجري في اليمن من نزيف حاد في قيمة العملة المحلية، يعود الى عدة أسباب منقسمة على شقين، أسباب إقتصادية و اخرى سياسية بحتة.
منذ بدء الإنقلاب الحوثي في سبتمبر 2014 بصنعاء وما رافقه من سيطرة كلية ومباشرة على كافة مفاصل الدولة ومؤسساتها، وما تلاه من تمدد لتلك الميليشيات في معظم المحافظات اليمنية، وتدخل دول التحالف العربي بقيادة السعودية عبر عاصفة الحزم، لم تكن حينها الأوضاع الإقتصادية في منأى عن كل ذلك، بل بدأت بالإنحدار والتردي شيئا فشيئا، جراء توقف جميع حقول وقطاعات النفط ومطارات البلد ومنافذها البرية والجوية، وبالتالي توقف كل الصادرات والأوعية الإيرادية السيادية التي كانت تغطي نسبة كبيرة من ميزانية الدولة، بالاضافة الى توقف المنح والهبات والودائع التي كانت تمنح للمركزي اليمني بصنعاء، وهي التدفقات المالية التي كانت هي الأخرى تغطي نحو 20 او 25% من ميزانية الدولة.
إستمر الوضع على ذلك الحال لما يقرب من عامين تقريبا، حتى أصدر الرئيس اليمني قرارا بنقل إدارة البنك المركزي من صنعاء الى عدن، مع تشكيل مجلس إدارة جديد يتكون من كوادر إقتصادية كبيرة بقيادة منصر القعيطي الذي كان أول محافظا للبنك المركزي بعد نقله الى عدن.
على مدى العامين الممتدين منذ سبتمبر 2014 وحتى سبتمبر 2016، تراجعت قيمة الريال اليمني ولكن بنسبة ليست بالكبيرة حتى وصلت الى نحو 280 ريال للدولار الواحد تقريبا او أقل قليلا ، بعد ماكان مستقرا لسنوات عديدة بسعر 215 ريال يمني، وهو ما اثار تساؤلات عديدة لاحقا، لماذا لم تقفز اسعار الصرف في تلك الفترة بشكل كبير كما هو اليوم في ظل توقف كافة الصادرات ؟ والإجابة عن هذا التساؤل ببساطة يفسره خبراء إقتصاد وسياسة، حيث يؤكدون أن الإحتياطيات النقدية والمالية الكبيرة التي كانت يحتفظ بها البنك المركزي بصنعاء خلال السنوات بل العقود الماضية، في الداخل وبنوك الخارج، هي ساهمت الى حد كبير في إحداث توازن في الميزان النقدي بالبلاد والتي تم توظيفها لهذا الغرض، بالاضافة الى التزام كافة المحافظات بما فيها المحررة بتوريد إيراداتها لمركزي صنعاء لضمان إستمرار دفع المرتبات الشهرية، علاوة على ذلك لم تكن في تلك الفترة محلات وشركات صرافة كثيرة كما هو الحال الان، وبالتالي عدم وجود مضاربات غير مشروعة بين الصرافين، كما يمكن أيضا القول أن الإحتياطيات المخزنة من النفط والسلع في المحافظات والشركات ولدى التجار، قد ساعدت هي الاخرى في تخفيف الطلب على العملة الاجنبية من المستوردين والتجار، وغيرها من الأسباب.
إستنزاف خزينة الدولة وإحتياطياتها وودائع المانحين وهباتهم ومنحهم من قبل البنك المركزي بصنعاء المحتلة من قبل الحوثيين في الداخل وايضا التي في الخارج، وعلى مدى عامين، أحدث عجزا كبيرا، وبدأ الريال اليمني وقتها تتدهور قيمته و قوته الشرائية امام العملات الأجنبية، وإرتفع بنحو 70 ريال، علما أنه كان سيستمر في التدهور والإنهيار ليصل الى نحو 600 ريال، في حال لم يصدر قرارا رئاسيا بنقل إدارة البنك المركزي الى عدن وقتها.
كان قرار نقل البنك المركزي الى عدن لابد منه، لكن ما رافقه من إجراءات سياسية وحكومية وإقتصادية وما تلاه من عمليات إرهابية إستهدفت مقره في عدن، فضلا عن المناكفات السياسية وجهود حثيثة من قبل أطراف واشخاص موالين للحوثيين ويتسترون بعباءة الشرعية، جميعها أسباب حالت دون تحقيق الهدف الرئيسي لنقل المركزي الى عدن، بالاضافة الى أسباب اخرى ذات اهمية كبيرة، ومنها الإنفاق الحكومي الضخم محليا وخارجيا وبالعملة الصعبة والمحلية ، واللجوء لطباعة كميات كبيرة من الاوراق النقدية لسد عجز السيولة حينها والايفاء بالالتزامات الملحة كالمرتبات، كذلك ايضا الفساد الكبير والازدواجية المفرطة لدى كشوفات مرتبات منتسبي وزارات سيادية هامة كوزارتي الدفاع والداخلية، حيث ان هاتين الوزارتين فقط يستنزفان من خزينة الدولة شهريا مليارات الريالات كرواتب.
يجمع العديد من خبراء الاقتصاد والسياسة أيضا، أن الاوضاع السياسية المضطربة في البلد، بالاضافة الى اضطراب أوضاع عدن امنيا وسياسيا، بالاضافة الى عدم التواجد الدائم للحكومة ومؤسساتها في عدن، واستمرارها بالتواجد بالخارج، تعد أسباب اساسية كذلك لهذا النزيف الحاد في الريال اليمني والاضراب المتواصل في اسعار الصرف.
كما يجمعوا أيضا الى أن عدم توريد قيمة مبيعات صادرات النفط إلى حسابات البنك المركزي في عدن ، وعدم توريد الموارد السيادية وغيرها من موارد النقد الأجنبي من المصادر المختلفة إلى البنك المركزي لدعم رصيد البنك من العملات الأجنبية، وعدم وجود ضغط حكومي للمحافظات الممتنعة عن توريد ايراداتها لمركزي عدن، جميعها أسباب رئيسية وهامة في تدهور الريال اليمني في السوق، لان حدوث ذلك بالتأكيد سيساهم في خلق حالة من الاستقرار لإيقاف نزيف العملة.
يؤكد الكثيرون أن المسؤولية فيما يحدث من تدهور حاد في قيمة الريال اليمني، تقع في المقام الاول على السلطات الرئاسية والحكومية في اليمن، التي قررت نقل البنك المركزي الى عدن، وتركته وحيدا يعاني ويلات طيشها وإنفاقها الكبير وفسادها وفساد مؤسساتها المستشري، وتعنتها غير المبرر، وتجاهلها لمناشدات إدارته ومخاطباتها العديدة، إضافة الى استمرار صراعاتها ومناكفاتها الجانبية، وإصرارها على تسييس الاقتصاد.
أربعة محافظون تعاقبوا على البنك المركزي في عدن منذ نقله من صنعاء في 2016، وخلالها تم هيكلة وتغيير عدد من القطاعات والادارات في البنك، وتطعيم قطاعات اخرى بخبرات جديدة، علاوة الى استمرار عمليات التأهيل والتدريب المحلي والخارجي لمنتسبيه، وتفعيل قطاعات ذات اهمية كانت راكدة، كل ذلك كان يمكن أن يؤثر إيجابا على عمل البنك المركزي وقيمة العملة المحلية، في حال تحملت الحكومة مسؤولياتها كاملة تجاه بنكها المركزي، وجنبته إنفاقها وفسادها، إلا أنها إستمرأت في ذلك حتى بات البنك المركزي في عدن يناشدها بالتوقف عن تلك الممارسات التي أوصلته الى مرحلة خطيرة من الإصدار على المكشوف.
وأمام كل ذلك، يمكن التأكيد أن البنك المركزي في عدن بحاجة ماسة جدا اليوم لتدخل الحكومة بصورة جدية وصارمة، وتحمل مسؤولياتها اولا من خلال توقيف او ترشيد إنفاقها، وإجبار كافة المحافظات والمؤسسات توريد ايراداتها لمركزي عدن، وايقاف العبث والفساد والازدواجية في كشوفات المرتبات الشهرية، وتوريد قيمة مبيعات النفط والجمارك والضرائب والمنافذ البرية والبحرية الى مركزي عدن، والتدخل بشؤون المنظمات الدولية وتحويل مرتبات منتسبيها بالعملة الصعبة الى المركزي، ومعالجة قضية انتشار محلات الصرافة بشكل كبير في عدن وباقي المحافظات، واعادة النظر بقرار رفع سعر صرف الدولار الجمركي، واسعار صرف استيراد المشتقات النفطية والسلع الاساسية، وضرورة ايجاد دعم نقدي او وديعة جديدة تودع في البنك المركزي، والبدء بتنفيذ الحوكمة.